دراسات إسلامية

 

 

 

 

 

الدعوة الإسلامية في عالم متغير

 

بقلم :  د. / محمد الشحات الجندي

 

 

 

 

                                                                                                  

     يُواجه الإسلام تحديات ضخمة في عالم اليوم، لا نبالغ إذا قلنا إن هذه التحديات الحسام، تستهدف قلعه من جذوره، وليس مجرد التطاول عليه والإساءة إليه، ولا أدل عليه أن الصورة المرسومة عن الإسلام تصفه بكل نقيصة، وتجرده من الميزات الكامنة في جوهره فالإسلام عند هؤلاء المتربصين دين رجعي يزدري المرأة ويعادي الحضارة ويعتنق نظرية الصراع مع الآخر، فضلاً عن أنه يقوم على العنف والإرهاب، ويؤمن بأفكار غيبية تعيش في الماضي، لاتتطلع إلى حاضر متطور، ناهيك عن مستقبل ناهض، ولا يجعل العلم والحرية طريقًا لمشروع حضاري ينطلق بالبشرية إلى آفاق الحضارة الغربية المهيمنة.

     وإذا كانت هذه النظرة المغلوطة عن الإسلام هي السائدة، ترددها الأبواق الغربية عبر السماوات المفتوحة، بهدف ترويج إشاعة نظرية الصدام التي قال بها الكاتب الأمريكي هانتنجتون؛ فإن الاعتراف بالحقيقة يجعل كاتب هذه السطور لا يؤمن بنظرية المؤامرة، ولا جلد الذات، لكن يرصد الواقع المعيش الذي يكشف عن قصور وممارسات خاطئة من جانب العالم الإسلامي، عبر مفاهيم مغلوطة وسلوكيات سيئة وغير مسؤولة، جنبًا إلى جنب مع الحملات المنظمة ضد الإسلام والمسلمين، إلى ترسيخ تلك الصورة الشوهاء لهذا الدين، وأزرت بحقيقته، وصيرته كابوساً مخيفًا ووحشًا كاسرًا، ينبغي على العالم أن يتضافر للتخلص منه، واقتلاعه من الأساس.

     ولا شك أن هذا الوضع المشوه، يلقى عبئًا جسيمًا على المؤسسة الدينية، يفرض عليها أن تستدعي الصورة الصحيحة عن الإسلام، وأن تبرز قيمه الحضارية ورسالته الإنسانية تلك التي جاءت لسعادة وخير الإنسان، والانطلاق به على درب التقدم والرقي، وجعله سيد هذا الكون، المسخر له كل ما فيه من نعم وعوالم في البر والبحر والفضاء اللانهائي.

     تدرك المؤسسة الإسلامية في أسلوبها الدعوي هذه الحقيقة، وتعمل على أن تستنهض الهمم، وتحفز العزائم، حرصًا على تغيير تلك الصورة المشوهة عن الإسلام والمسلمين في عصر المعلومات والغزو الثقافي ورائدها في ذلك السُنن الكونية ونواميس التطور الذي أصله قوله تعالى ﴿إِنَّ اللهَ لاَيُغَيِّرُ مَا بِقوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد آية11) وقوله عز شأنه: ﴿ذٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مَغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.

     من هذه النقطة تعى المؤسسة الإسلامية في خطابها الدعوي أن هناك داءً عضالاً، ومرضاً فتاكاً تعاونت على تكريسه عوامل مختلفة، فأورثت العديد من العلل الدينية والاجتماعية منها الفقر، والجهل، والأمية الدينية، والتزمُّت، والتميع.. إلى آخر هذه السلسلة من الأمراض الفتاكة.

     وعلى هذا الأساس من تشخيص أمراض الفرد والأمة، يرسم الخطاب الدعوي العلاج الذي يعتمد العلم المؤمن بالله لصالح الإنسان، عن طريق نشر العلم الجامع للدين والدنيا، ذلك الذي يجعل التفكير في الكون والحياة فريضة إسلامية على نحو يرشد السلوك، ويؤدي إلى الصلاح والاستقامة.

     والعلم الذي ينقي الدين من الخرافات والبدع، ويرشد إلى عطاء الإسلام كما جاء في القرآن الكريم والسُنة، في بساطته التي تتواءم مع الفطرة البشرية السوية.

     وإفهام المسلم أن إيمانه لا يكتمل إلا بعمله؛ إذ العمل قرين الإيمان، كما في النصوص: ﴿إِنَّ الَّذِيْنَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً﴾ (سورة الكهف آية 107).

     وأن السبق في الحياة الدنيا لايكون إلا لمن عمل وأخذ بالأسباب؛ فإنه لا يغني إيمانٌ بلا عمل.

     تنقية السُّنة من الدخيل عليها والمدسوس فيها، وتخليصها من الإسرائيليات التي أضيفت إليها، وتصنيف الأحاديث النبوية بحسب مرتبتها إلى صحيحة وحسنة وضعيفة على نحو يتيسّر لكل مطلع أن يتعرف على مناسبة الحديث والموقف الذي يتحدث عنه، والدرجة التي يتبوّأها ويرقى إليها.

     تربية الداعية وتكوينه التكوين الصحيح، الداعية هو قطب الرحى في تبليغ الخطاب الإسلامي، ويتطلب ذلك إعداد الشخصية النموذج، الذي يكون لديه الاستعداد والمقدرة والعقل والبصيرة، المؤهلة للتلقي والاستيعاب والتحصيل. مصداقًا لقوله تعالى: ﴿قُلْ هٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ (سورة يوسف آية 108).

     والدعوة المتبصرة لا تكون إلا على ركيزة المنهج السديد المتمثل في دستور الدعوة إلى الله، ذلك المؤسس على الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن. بقوله تعالى: ﴿اُدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحِسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (سورة النحل آية 125).

     فمن كانت مسيرته على هذا المنهج القرآني فقد فقه الإسلام وأحسن إلى الخلق وذلك ما يرتكز على مقومات، منها. أن يخاطب الناس على قدر عقولهم، وبالمدخل العقلاني جنبًا إلى جنب مع النصوص؛ فإن أسلوب الخطاب يختلف بحسب البيئة والنشئة، وطبقًا للثقافة ودرجة التعليم مع ملاحظة الحالة النفسيّة والوجدانية والحالة الإجتماعية، للمخاطبين وهي أمور أساسية ومهمة، يجب أن يضعها الداعية نصب عينيه، فهي السبيل والمدخل الصحيح للنفاذ إلى عقولهم، والتغلغل إلى أعماق قلوبهم، وتشكيل وجدانهم.

     تأهيل الداعية بالعلم النافع وتزويده بالأدوات اللازمة لتهذيب السلوك، وترشيد الفعل، وصناعة العقل النابه المتفكر، وتحصينه بالفهم الواعي وتعويده استقلالية الرأي والفكر، وأن يستوعب حركة المجتمع الذي يعيش فيه، وأن يدون مُؤَهَّلاً للتعامل مع قضايا العصر.

     ومن المفيد في هذا الصدد أن يكون الداعية على دراية باتجاهات الرأي العام، قادرًا على الإقناع، مزودًا بفن الإلقاء، وبقدر رصيده في هذا المضمار تتوفر ملكة الدعوة إلى الله فيه، وهي فتوحات يتجلى الله بها على دُعاته المخلصين، بالإضافة إلى إعداده الإعداد الرصين.

تطوير الخطاب الديني قضية متجددة ومستمرة بتجدد الحياة:

     حديث: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة من يجدد لها أمرَ دينها» رواه أبوداود. سُنة الحياة هي التطور، واستحداث أمور وتجدد شؤون على غير ما كان عليه زمان السلف الصالح، فهو من النواميس الكونية.

     ولأن الاجتهادات البشرية على مدار العصور متغيرة، والعالم من حولنا تطرأ له المشكلات المستحدثة تلك التي يلزم فيها التجديد من خلال الاجتهاد، يتأتّى عن طريقهما عرض حلول للنوازل والمشكلات، وإيجاد التلازم بين التجديد والاجتهاد.

     نحن في حاجة ماسّة إلى خطوات على طريق النهوض والانطلاق الفكري والحضاري، وأولى معالمه الفقه السديد للإسلام من عمقه العقيدي، وفي نظامه التشريعي، وفي رؤيته الأخلاقية والحضارية، ومعتمدة العودة إلى حقائق الدين ومعالمه الهادية.

المشهد الراهن للخطاب الديني: الإمكانات والتحديات

     المشاهد المرئي والمسموع هو المبارزة بالآراء، والتراشق بالنصوص والفوضى في هذا الكم الزاخر من الفتاوى، بما يورث الحيرة، ويحدث البلبلة، ويمزق وحدة الجماعة، ويبذر الفتنة في صفوفها.

     لقد بلغ الخلل والفوضى مداه في المشهد الراهن، حتى لقد يخيل للمتابع لهؤلاء الدعاة، أن كل فريق يتحدث عن إسلام يغاير إسلام الفريق الآخر؛ إذ المشارب والمناهج مختلفة، ففريق يرفع راية الإدانة، ويركن إلى التشديد والغُلو في الدين، وكأن الدين جاء لينغص على الناس حياتهم، ويكلفهم بما فوق الاستطاعة. وهو تصوير للدين بغير حقيقته، فإن مبناه التكليف بقدر الاستطاعة، إذ لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها والغُلو في الدين مذموم ومنهي عنه، وهو صنيع أقوام أساءوا إلى الدين، وهو ليس مسلك أهل القبلة.

     ألا ليعلم هؤلاء أن الإسلام هو الحنيفية السمحة، يقوم على اليُسر والتبشير، ليس من شيمة الداعين إليه التنفير والتيئيس وصناعة صورة قائمة وكئيبة في النفوس، تصد الناس عن الدين، وتُغلق الأمل في التوبة، فإن بابها مفتوح لكل مذنب ومُفَرِّط في جنب الله.

     وما درى هؤلاء الذين انطلقوا على هذا الطريق، أنهم مضلون صادون عن سماحة الإسلام، ورحمة الله التي وسعت كل شيء؛ فإن الدعوة إلى الدين الحق، أجدر أن تفتح للعُصاة أبواب الإنابة والتوبة والعفو والمغفرة، بدلاً من الويل والثبور وعظائم الأمور للمذنبين، فإن هذا الصنيع فيه هلاك ليس بعده منجاة إلا من عصم الله. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «هلك المتنطعون».

     وهم المتشددون الذين يغلقون أبواب الرجاء، ويزرعون اليأس والقنوط، ويأبى الإسلام ذلك، فإن سُمُو هذا الدين وعمقه وآفاقه الرحبة، تجعله في منأى عن هذا العبث والتعنت والتضييق، وصنيع المتنطعين المغالين، لن ينال بحال من صرحه السامق، فإن هذا الدين كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - «متين، فأوغلوا فيه برفق ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه».

     ويكفى أن نشير إلى بعض التشدد الذي يقيم الدنيا ولا يقعدها، في فروع وجزئيات، مثل مسائل تقصير الثياب، وإطالة اللحي، والنقاب والختان وما شاكلها. وحسب هؤلاء عوجًا أن يصرفوا الخلق عن القضايا الكُبرى والقضايا العقدية والتشريعية الحريّة بالاهتمام.

     وعلى الجانب المعاكس: الفريق الآخر، الذي اتخذ من التحلل والتميع، والانسلاخ عن عرى الإسلام طريقًا له؛ فالتبذل والتفحش والتورط في الحرام بين الجنسين هو لديه من العفو الذي يقبل به الإسلام، ولا مانع منه بين الفتى والفتاة، كذلك يخرج كتاب: الجنس في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضًا فإن التجرؤ على المقدسات، واقتحام الحصن الإلهي والتشكيك فيما هو من أخص خصوصياته أسماء الله الحُسنى، وصفاته العلية، هو من المباحات، القابل للابتداع والاختراع فيها.

     كذلك إمامة المرأة للرجال في صلاة الجمعة والجماعة والتفسير النسوي للقرآن.

     وجماعة القرآنيين، هم المنكرون للسُّنة ولكل مصادر الإسلام للتشريع وتنظيم الحياة الأخرى. ومسلك المؤسسة الإسلامية هي تبصر الوضع المعيشي للفرد والأمة، وتقديم رسالة الإسلام الوسطية على سند الحقيقة الماثلة التي يجب أن يدركها هذا الفريق أو ذلك، وهي أن أُمتنا صارت في مؤخرة الأمم، ليس في الاقتصاد والتكنولوجيا وإنما في كثير من الأمور، وهذا هو المشكل، في فهم هويتها وقيم حضارتها، مثل الصدق والأمانة؛ والعلم والعمل النافع والانتماء والأخوة وهو ما يجب أن يعم مسيرة الحياة المعاصرة، وتُسهم به في عالم يموج بالأفكار والطموحات والإنجازات والمبتكرات التي تكشف كل يوم عن جديد ونحن في جدلنا العقيم منشغلون، وفي إثارة الاختلافات والخلافات متطاحنون، وفيما يخططه لنا الأعداء من مكائد وأفخاخ للانصراف عن قضايانا الجوهرية مستسلمون.

     لقد أخطأ هؤلاء وهؤلاء الطريق، فالأزمة التي أحدثوها صورت الإسلام بما ليس فيه، وأساءت إليه، و وصمته بالعجز والقصور والتفريط والإفراط ونتج عنه سوء فهم جوهر الإسلام ومقاصده العليا في الدين والحياة، وهو ما جعل هؤلاء الدعاة غير فاقهين لقوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (سورة محمد آية 24).

     واليقين بإن الإسلام التزام وامتثال وإذعان لمنهج الله في العبادة والمعاملة بكل ما تشتمل عليه هذه وتلك بدءًا من لا إله إلا الله وانتهاءً بإماطة الأذى عن الطريق، فكل أمور الدنيا والدين هي محل اهتمام عند الإسلام.

     لقد نعت هذا المسلك وذاك التوجه الإسلام بما ليس فيه وجعل الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، والذي أحدث لهم ذلك كما يقول ابن القيم: «نوع من التقصير في معرفة الحق ومعرفة الواقع وتنزيل أحدهما على الآخر».

     إننا في حاجة مُلحة إلى إحياء الإسلام كله في حقيقته وجوهره، في مقاصده وعالميته، مطالبين بنفض الغبار عنه، وإزالة التراكم الذي حجب رسالته الوسطية القائمة على الاعتدال والاستنارة، فهو الدين الذي يؤلف القلوب، ويغرس الانتماء للدين والأمة والوطن.

     نريد الخروج من مستنقعَ الاشتباك الذي لاينتهى حول الفرعيات والتفاصيل والموضوعات التي لاتقدم خيرًا للأمة، ولا تبعثها من رقادها وتنهض بها إلى الأمام وإلى الأمان الديني والحياتي.

حتمية  التخلص من التعامل الخاطئ مع واقع الأمة ومتطلبات العصر

     إن الانصراف عن هذا الطريق الخاطئ، يضحي حتمية لازمة، لمعالجة مظاهر التخلف من البطالة والفقر، والجهل والأُمية، والمرض والقهر، وكوننا عالة على الآخرين. إن صالح الوطن، وتماسك المجتمع، ومطالب الفرد والوفاء باحتياجاته الأساسية هي من الهم العام، والشأن الإسلامي، ومصلحة الأمة كلها.

     وهذا ما عناه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم».

     إن قيم العمل الجاد المتقن، يجب أن تعود إلى كل فرد، وأن يقوّم سلوك كل فرد في الجماعة، على العمل الذي يفيد الوطن ويتأتى من كل قادر عليه بحسب ما يصلح له وبذلك نقدم ذلك النموذج الإسلامي كما في الحديث: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة (أي شتلة نخل) فاستطاع أن يغرسها فليغرسها فله بذلك أجر» تعبيرًا عن العمل حتى آخر رمق في الحياة.

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، جمادي الثانية 1432هـ = مايو 2011م ، العدد : 6 ، السنة : 35